لعل الانطلاق في فهم فكرة التوحيد من الديانات التوحيدية كما نعرفها الآن، أو من اللحظة الأفلاطونية في منظورها لفكرة الإله الواحد، الخالق (Démiurge) كما نجدها مثلا في محاورة تيماوس، يعني، تلقائيا، إهمال كل ما سبق من حياة الإنسان على الأرض منذ ما قبل التاريخ نفسه. فاللحظات المذكورة هي لحظات متطورة من حيث تصورُ الإله كإله مُفارق بدرجات متفاوتة، ولا يمكن أن يكون التفكير الإنساني، البدائي، على هذه الدرجة من التطور. وبما أن وجود الإنسان سابق على التاريخ فقد يكون من الأفيد أن ننطلق من لحظة وجود الإنسان نفسه كقطيع بدائي (horde primitive) يعيش إلى جانب الأنواع الحية الأخرى على الأرض. ففي هذه الحياة القطيعية الأولى يسهل أن نتصور كيف كان يتوالد الإنسان. لقد كان، ببساطة، يتوالد كباقي أنواع الثدييات التي تعيش على شكل قُطعان، وكان الذكور يُجامعون الإناث دون تمييز. وفي هذه العملية الحيوانية الصرفة يبقى الذكر، بحكم الطبيعة، هو الذي يملك زمام المبادرة الجنسية لأن لديه إمكانية الإيلاج (La pénétration) خلافا للأنثى. وكما في حياة باقي القطعان الحيوانية، أو كثير منها بالأحرى، فقد كان كل ذكر يُجامع عدة إناث بشكل عشوائي ودون أي تمييز. ومع ظهور الوعي وتطوره، بالتدريج، من خلال العلاقة مع الغير كما يبين ذلك نيتشه، فقد صار الذكر "يعي" الإناث اللائي يُجامعهن ويميزهن، بحكم ذلك، عن غيرهن. وتدريجيا، صار كل ذكر يميل إلى تمييز إناثه ويمنع باقي الذكور من معاشرتهن. وهكذا توحدت كل مجموعة من الإناث حول ذكر معين. ولاحقا، عندما صار لهؤلاء الإناث بنات وأبناء من نفس الذكر، أصبحت مجموعة بشرية معينة (العائلة) موحدة حول ذكر مُحدد هو الأب. ومع تطور الوعي والثقافة اكتسب هذا الأب صفة القدسية داخل العائلة وصار الجميع يدين له بالطاعة والولاء. وعندما أستعمل هنا فعل "يدين" أقصد، بالضبط، المعنى الذي تكون به الزوجات والبنات والأبناء، أي كل أفراد العائلة، مدينين ل"الأب"، وعليهم بالفعل رد هذا "الدَيْن". فالذكرـ الأب قد أعطى لهذه العائلة وجودها باعتباره مُخصباً للإناث، وأعطاها حمايته، وتوجيهه...إلخ. والعطاء هنا بمعنى "الوَهْب". وحتى إذا كانت هناك اختلافات كثيرة حول إيتيمولوجيا كلمة "الدين" (Religion) فهي تحمل في تقديري ما تعبر عنه اللغة الفرنسية بفعل Léguer، أي "وَهَبَ" و "Re-léguer"، بمعنى "رد الهبة" أو "رد العطاء" أو رد "الأعطية" كعرفان نحو الأب ـ الذكر الذي يعطي للعائلة وجودها ووحدتها.
وهكذا ففكرة التوحيد قد ظهرت أولاً كتعبير عن نزعة جنسية ذكورية إذ تم توحيد مجموعة من الإناث حول قضيب (Phallus) ذكر واحد. ولعل هذا هو ما يجعل فكرة التوحيد، والأنظمة السياسية والاجتماعية وحتى الفلسفية، التي تقوم عليها أنظمة فالوقراطية (Phallocratique) بامتياز. وهذا ليس غريبا بتاتا ما دام التوحيد في أصله قد انطلق من التوحيد حول الذكر ـ الأب الذي، وبحكم سلطته الجنسية، استولى أيضا على السلطة الثقافية داخل الجماعة التي تخضع له، وصار هو مصدر كل شيء من الحماية إلى المعرفة.
لقد وفرت وظيفة الحماية التي كان يمارسها الذكر ـ الأب المنطلق الأول لما سيصبح سلطة سياسية، كما وفرت وظيفة التربية التي كان يباشرها الذكر ـ الأب ومن بعده الإناث ـ الأمهات نقطة انطلاق كل السلطات الأخرى الدينية، والأخلاقية، و... التي ستصبح كلها، وغيرها، سلطات قائمة لدى المجتمعات البشرية.
وبحكم هذا الموقع القيادي، المحوري، كان موتُ الأب ـ الذكر، بصرف النظر عن ظروفه وأسبابه، يشكل بالنتيجة فقدان القائد، الحامي، المُربي...إلخ. وكان من الصعب دون شك على الإنسان البدائي أن يتقبل حقيقة الموت هذه. ولذلك ابتكر فكرة "النُصب" سواء كان هذا النُصب قبرا أو أي علامة أخرى توضع في مكان ما لتخليد الأب ـ القائد. والتخليد (Eternisation) لا يعني شيئا آخر غيرالرفض المبدئي للفناء، للموت. وهنا، لم تظهر فقط فكرة الروح وإنما ظهرت أيضا فكرة المَعْبَد الذي أصبح يُقام حول هذا النُصب من أجل رد "الدَيْن" للأب. ولربما فأسماء كثير من الآلهة التي عُبدت في القديم هي في أصلها أسماء لزعماء عائلات وقبائل وتجمعات بشرية أخرى أكبر أو أصغر. ولأن الأب، بعد الموت، لم يعد جسدا حيا يمكن رد "الدين" إليه ماديا وإنما صار "رُوحاً"، فرد "الدين"، بدوره، ينبغي أن يكون ردا "روحيا" بالغناء والتراتيل والقرابين وغير ذلك من الطقوس الموجهة إلى "روح الأب"، أي كل ما صار لاحقاً طقوساً للعبادة. وبحكم اتحاد مجموعات عديدة تنتمي إلى آباء مختلفين تأسست مجموعات أكبر عبر التاريخ (قبائل، شعوب، مدن، دول...) تعبُدُ آلهة متعددة لم تكن، في الأصل، غير آلهة المكونات التي تشكلت منها تلك التجمعات البشرية. وليس من المُستغرب أن المكونات التي كانت تصل إلى الحكم، أو تسعى إلى ذلك، كانت تفرض آلهتها على الجميع وتسقط الألوهية عن آلهة الغير. والأمر نفسُه كان يتم في حالة الغزو. فقد كان الغازي يفرض عبادة آبائه ـ آلهته على الذين صاروا تحت نفوذه.
في هذا المسار الذي اتخذته فكرة التوحيد، من التوحيد الجنسي حول القضيب إلى التوحيد الديني حول آلهة أو إله، كان الهاجس دائما هاجسا سياسيا حتى في أصغر التجمعات البشرية. فالخوف من الحيوانات الأخرى، ومن التجمعات البشرية الأخرى أيضا، وكذا عوامل المحيط الطبيعي، كلها حوافز كانت تدفع الإنسان إلى مزيد من التكتل والتجمع، وبالنتيجة إلى مزيد من التوحيد. وعملية توحيد الجماعة، باعتبارها هاجسا سياسيا بالمعنى الأبسط للسياسة، لم تكن تتم دائما بالتراضي وإنما كانت تتم أيضا بواسطة العنف المادي، أي عبر الحرب. ولا حاجة بنا هنا إلى التذكير بأن الحرب تحضر فيها الآلهة أيضا باعتبارها مصدرا للعون والمَدَد الروحي. وبقدر ما كان هناك بشر يتصارعون ويتقاتلون كانت الآلهة تُقحَم في ذينك الصراع والقتال. وكان انتصار طرف بشري ما يعني أولاً انتصار إلهه أو آلهته على إله المهزومين أو آلهتهم، وبالتالي إسقاط صفة الألوهية عن آلهة الذين خسروا الحرب، وإكراههم على عبادة آلهة المنتصرين.
عندما يقدم لنا النص التوراتي تصورا للإله، ويقدمه كشبيه بالإنسان تماما، يلتقي به يعقوب في الصحراء وهو على هيئة رجُل، ومع أن هذا الأمر يضحك اليوم كثيرين، فهو لا يفعل أكثر من نقل صورة الإله كما ظهرت بالفعل لدى الإنسان أول مرة. فالإله إنسان، أبٌ، زعيم، قائد...إلخ لم تتقبل جماعته حقيقة فنائه فعملت على "تخليده" بواسطة نُصب، وأقامت حول النُصب معبدا، وشرعت في ممارسة طقوس محددة لتخليد "روحه". ولأن ابن الإله لا يمكن أن يكون، بدوره، إلا إلها فقد تقمص الزعماء اللاحقون، ورثة الآباء الأولين، صفة الألوهية وهم لا يزالون أحياء ولم ينتظروا موتهم ليُخَلدوا أنفسهم ويفرضوا على المحكومين أن يعبدوهم. وبذلك ظهرت فكرة الحاكم ـ الإله التي يُعتبر الفرعون المصري أقرب الأمثلة عنها في ثقافة شمال إفريقيا. ونستطيع أن نعثر بسهولة على عدد كبير من الأمثلة عن الحكام الذين كانت شعوبهم تعبدهم وتعتبرهم آلهة. وقد انتظر اليابانيون حتى سنة 1945 لكي يُسقطوا صفة "الإله" عن إمبراطور اليابان. وكانت القنبلتان الذريتان على هيروشيما وناكازاكي، والكارثة التي نجمت عنهما، هي التي قادت أساسا إلى هذا التحول في الوعي السياسي الياباني. وبالتالي فمنذ أول حاكم أله نفسه، وحتى الإمبراطور الياباني وما بعده، كان من المفهوم تماما أن يرتبط الدين بالسياسة، وكان من العادي جدا أن يكون الدين في خدمة الأنظمة السياسية وأن يكون رجال الدين، إلا في حالات قليلة جدا، أدوات في أيدي الحاكمين. ومن هنا ظلت العلاقة بين الدين والسياسة قائمة عبر التاريخ البشري، ولم يضع الإنسان هذه العلاقة موضع نقد إلا في العصر الحديث.
أن يكون الدين مرتبطا بالسياسة، ورجل الدين في خدمة الحاكم أساسا، معناه أن يكونا معا في خدمة نظام سياسي. ومن المنطقي جدا، والحالة هذه، أن تختلف الأديان، والمذاهب الدينية، وتأويلات النصوص المؤسسة للأديان، باختلاف الأنظمة السياسية، وتبعاً للموقع من الحاكمين. وعلى مدى تاريخ طويل تأسس، في النهاية، ما صار وعاءً أيديولوجياً للأنظمة والمصالح السياسية المتناقضة والمتضاربة. ولأن الدين انطلق من فكرة التوحيد، توحيد الجماعة والقبيلة والمدينة والدولة، حول إله واحد، فإن هذا التوحيد يعبر بالضرورة عن تصور سياسي معين. ومنذ الذكر الأول الذي ميز إناثه عن غيرهن، وحال دون معاشرتهن من طرف الذكور الآخرين، قامت فكرة التوحيد على مبدأ الضم والإخضاع للصوت الواحد، للسلطة الواحدة، التي يمارسُها في مجموعها، ودون أي حدود أو قيود، الذكرـ الأب الذي سيصير، تاريخيا، الحاكم ـ الإله. وهذا هو المنطلق الأولي، البسيط، للاستبداد. وسواء مُورس هذا الاستبداد على مجموعة من الإناث في القطيع البدائي أو على أمة قوامُها مئات الملايين فالمبدأ واحد: تجميع السلطة في شخص واحد يتماهى مع الإله الواحد، حتى وإن كان هذا التماهي يتم بدرجات متفاوتة سانكرونياً ودياكرونياً أيضا. وعلى ما يبدو، ففكرة التوحيد وفكرة الاستبداد قد ظهرتا متلازمتين.
تعليقات بلوجر
تعليقات فيسبوك